فصل: ذكر وفاة صاحب مازندران والخلف بين أولاده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة ثلاث وستمائة:

.ذكر ملك عباس باميان وعودها إلى ابن أخيه:

في هذه السنة ملك عباس باميان من علاء الدين وجلال الدين ولدي أخيه بهاء الدين.
وسبب ذلك أن عسكر باميان لما انهزموا من الدز، وعادوا إليها، أخبروا أن علاء الدين وجلال الدين أسرا، وأن الدز ومن معه غنموا ما في العسكر فأخذ وزير أبيهما، المعروف بالصاحب، من الأموال كثيراً، ومن الجواهر وغيرها من التحف، وأخذ فيلاً، وسار إلى خوارزم شاه يستنجده على الدز ليسير معه عسكراً يستخلص به صاحبيه.
فلما فارق باميان، ورأى عمهما عباس خلو البلد منه ومن ابني أخيه، جمع أصحابه وقام في البلد فملكه، وصعد إلى القلعة فملكها، وأخرج أصحاب ابني أخيه علاء الدين وجلال الدين منها؛ فبلغ الخبر إلى الوزير السائر إلى خوارزم شاه، فعاد إلى باميان، وجمع الجموع الكثيرة، وحصر عباساً في القلعة، وكان مطاعاً في جميع ممالك بهاء الدين وولديه من بعده، وأقام عليه محاصراً، إلا أنه لم يكن معه من المال ما يقوم بما يحتاج إليه، إنما كان معه ما أخذه ليحمله إلى خوارزم.
فلما خلص جلال الدين من أسر الدز، على ما نذكره، سار إلى باميان، فوصل إلى أرصف، وهي مدينة باميان، وجاء إليه وزير أبيه الصاحب، واجتمع به، وساروا إلى القلاع، وراسلوا عباساً المتغلب عليها، ولاطفوه، فسلم الجميع إلى جلال الدين وقال: إنما حفظتها خوفاً أن يأخذها خوارزم شاه؛ فاستحسن فعله، وعاد إلى ملكه.

.ذكر ملك خوارزم شاه الطالقان:

لما سلم خوارزم شاه ترمذ إلى الخطا سار عنها إلى ميهنة وأندخوي وكتب إلى سونج أمير أشكار، نائب غياث الدين محمود بالطالقان، يستميله، فعاد الرسول خائباً لم يجبه سونج إلى ما أراد منه، وجمع عسكره وخرج يحارب خوارزم شاه، فالتقوا بالقرب من الطالقان.
فلما تقابل العسكران حمل سونج وحده مجداً، حتى قارب عسكر خوارزم شاه، فألقى نفسه إلى الأرض، ورمى سلاحه عنه، وقبل الأرض، وسأل العفو، فظن خوارزم شاه أنه سكران، فلما علم أنه صاح ذمه وسبه، وقال: من يثق بهذا وأشباهه! ولم يلتفت إليه، وأخذ ما بالطالقان من مال وسلاح ودواب وأنفذه إلى غياث الدين مع رسول، وحمله رسالة تتضمن التقرب إليه والملاطفة له، واستناب بالطالقان بعض أصحابه، وسار إلى قلاع كالوين وبيوار، فخرج إليه حسام الدين علي بن أبي علي، صاحب كالوين، وقاتله على رؤوس الجبال، فأرسل إليه خوارزم شاه يتهدده إن لم يسلم إليه، فقال: أما أنا فمملوك، وأما هذه الحصون فهي أمانة بيدي، ولا أسلمها إلا إلى صاحبها؛ فاستحسن خوارزم شاه منه هذا، وأثنى عليه، وذم سونج.
ولما بلغ غياث الدين خبر سونج، وتسليمه الطالقان إلى خوارزم شاه، عظم عنده وشق عليه، فسلاه أصحابه، وهونوا الأمر.
ولما فرغ خوارزم شاه من الطالقان سار إلى هراة، فنزل بظاهرها، ولم يمكن ابن خرميل أحداً من الخوارزميين أن يتطرق بالأذى إلى أهلها، وإنما كانوا يجتمع منهم الجماعة بعد الجماعة، فيقطعون الطريق، وهذه عادة الخوارزميين.
ووصل رسول غياث الدين إلى خوارزم شاه بالهدايا، ورأى الناس عجباً، وذلك أن الخوارزميين لا يذكرون غياث الدين الكبير والد غياث الدين هذا، ولا يذكرون أيضاً شهاب الدين أخاه، وهما حيان، إلا بالغوري، وصاحب غزنة، وكان وزير خوارزم شاه الآن، مع عظم شأنه وقلة شأن غياث الدين هذا، لا يذكره إلا بمولانا السلطان مع ضعفه وعجزه وقلة بلاده.
وأما ابن خرميل فإنه سار من هراة في جمع من عسكر خوارزم شاه، فنزل على أسفزار في صفر، وكان صاحبها قد توجه إلى غياث الدين فحصرها وأرسل من بها يقسم بالله لئن سلموها أن يؤمنهم، وإن امتنعوا أقام عليهم إلى أن يأخذهم، فإذا أخذهم قهراً لا يبقى على كبير ولا صغير، فخافوا، فسلموها في ربيع الأول، فأمنهم ولم يتعرض إلى أهلها بسوء؛ فلما أخذها أرسل إلى حرب بن محمد، صاحب سجستان، يدعوه إلى طاعة خوارزم شاه والخطبة له ببلاده، فأجابه إلى ذلك، وكان غياث الدين قد راسله قبل ذلك في الخطبة والدخول في طاعته، فغالطه ولم يجبه إلى ما طلب.
ولما كان خوارزم شاه على هراة عاد إليها القاضي صاعد بن الفضل الذي كان ابن خرميل قد أخرجه من هراة في العام الماضي، وسار إلى غياث الدين، فعاد الآن من عنده، فلما وصل قال ابن خرميل لخوارزم شاه: إن هذا يميل إلى الغورية، ويريد دولتهم، ووقع فيه، فسجنه خوارزم شاه بقلعة زوزن، وولى القضاء بهراة الصفي أبا بكر محمد السرخسي، وكان ينوب عن صاعد وابنه في القضاء بهراة.

.ذكر حال غياث الدين مع الدز وأيبك:

لما عاد الدز إلى غزنة، وأسر علاء الدين وأخاه جلال الدين، كما ذكرناه، كتب إليه غياث الدين يطالبه بالخطبة له، فأجابه جواب مدافع، وكان جوابه في هذه المرة أشد منه فيما تقدم، فأعاد غياث الدين إليه يقول: إما أن تخطب لنا، وإما أن تعرفنا ما في نفسك؛ فلما وصل الرسول بهذا أحضر خطيب غزنة وأمره أن يخطب لنفسه بعد الترحم على شهاب الدين، فخطب لتاج الدين الدز بغزنة.
فلما سمع الناس ذلك ساءهم، وتغيرت نياتهم، ونيات الأتراك الذين معه، ولم يروه أهلاً أن يخدموه، وإنما كانوا يطيعونه ظناً منهم أنه ينصر دولة غياث الدين، فلما خطب له أرسل إلى غياث الدين يقول له: بماذا تشتط علي، وتتحكم في هذه الخزانة؟ نحن جمعناها بأسيافنا، وهذا الملك قد أخذته، وأنت قد اجتمع عندك الذين هم أساس الفتنة، وأقطعتهم الإقطاعات، ووعدتني بأمور لم تقف عليها، فإن أنت أعتقتني خطبت لك وحضرت خدمتك.
فلما وصل الرسول أجابه غياث الدين إلى عتق الدز، بعد الامتناع الشديد، والعزم على مصالحة خوارزم شاه على ما يريد، وقصد غزنة ومحاربته بها؛ فلما أجابه إلى العتق أشهد عليه به، وأشهد عليه أيضاً بعتق قطب الدين أيبك، مملوك شهاب الدين ونائبه ببلاد الهند، وأرسل إلى كل واحد منهما ألف قباء، وألف قلنسوة، ومناطق الذهب، وسيوفاً كثيرة وجترين، ومائة رأس من الخيل، وأرسل إلى كل واحد منهما رسولاً، فقبل الدز الخلع، ورد الجتر، وقال: نحن عبيد ومماليك، والجتر له أصحاب.
سار رسول أبيك إليه، وكان بفرشابور قد ضبط المملكة وحفظ البلاد، ومنع المفسدين من الفساد والأذى، والناس معه في أمن، فلما قرب الرسول منه لقيه على بعد، وترجل وقبل حافر الفرس، ولبس الخلعة، وقال: أما الجتر فلا يصلح للمماليك، وأما العتق فمقبول، وسوف أجاريه بعبودية الأبد.
وأما خوارزم شاه فإنه أرسل إلى غياث الدين يطلب منه أن يتصاهرا، ويطلب منه ابن خرميل صاحب هراة إلى طاعته، ويسير معه في العساكر إلى غزنة، فإذا ملكها من الدز اقتسموا المال أثلاثاً: ثلث لخوارزم شاه، وثلث لغياث الدين، وثلث للعسكر؛ فأجابه إلى ذلك، ولم يبق إلا الصلح، فوصل الخبر إلى خوارزم شاه بموت صاحب مازندران، فسار عن هراة إلى مرو، وسمع الدز بالصلح، فجزع لذلك جزعاً عظيماً ظهر أثره عليه، وأرسل إلى غياث الدين: ما حملك على هذا؟ فقال: حملني عليه عصيانك وخلافك علي. فسار الدز إلى نكياباذ فأخذها، وإلى بست وتلك الأعمال فملكها، وقطع خطبة غياث الدين منها، وأرسل إلى صاحب سجستان يأمره بإعادة الترحم على شهاب الدين، وقطع خطبة خوارزم شاه، وأرسل إلى ابن خرميل، صاحب هراة، بمثل ذلك، وتهددهما بقصد بلادهما، فخافهما الناس.
ثم إن الدز أخرج جلال الدين، صاحب باميان، من أسره، وسير معه خمسة آلاف فارس مع أي دكز التتر، مملوك شهاب الدين، إلى باميان ليعيدوه إلى ملكه ويزيلوا ابن عمه عنه، وزوجه ابنته؛ وسار ومعه أي دكز، فلا خلا به وبخه على لبسه خلعة الدز وقال له: أنتم ما رضيتم أن تلبسوا خلعة غياث الدين، وهو أكبر سناً منكم، وأشرف بيتاً، تلبس خلعة هذا المأبون! يعين الدز، ودعاه إلى العود معه إلى غزنة، وأعلمه أن الأتراك كلهم مجمعون على خلاف الدز.
فلم يجبه إلى ذلك، فقال أي دكز: فإنني لا أسير معك؛ وعاد إلى كابل، وهي إقطاعه، فلما وصل أي دكز إلى كابل لقيه رسول من قطب الدين أيبك إلى الدز يقبح له فعله، ويأمره بإقامة خطبة غياث الدينم، ويخبره أنه قد خطب له في بلاده، ويقول له إن لم يخطب له هو أيضاً بغزنة ويعود إلى طاعته، وإلا قصده وحاربه.
فلما علم أي دكز ذلك قويت نفسه على مخالفة الدز، وصمم العزم على قصد غزنة، ووصل أيضاً رسول أيبك إلى غياث الدين بالهدايا والتحف، ويشير عليه بإجابة خوارزم شاه إلى ما طلب الآن، وعند الفراغ من أمر غزنة تسهل أمور خوارزم شاه وغيره، وأنفذ له ذهباً عليه اسمه، فكتب أي دكز إلى أيبك يعرفه عصيان الدز على غياث الدين وما فعله في البلاد، وأنه على عزم مشاققه الدز، وهو ينتظر أمره؛ فأعاد أيبك جوابه يأمره بقصد غزنة، فإن حصلت له القلعة أقام بها إلى أن يأتيه، وأن لم تحصل له القلعة وقصده الدز انحاز إليه، أو إلى غياث الدين، أو يعود إلى كابل.
فسار إلى غزنة، وكان جلال الدين قد كتب إلى الدز يخبره خبر أي دكز وما عزم عليه، فكتب الدز إلى نوابه بقلعة غزنة يأمرهم بالاحتياط منه، فوصلها أي دكز أول رجب من السنة، وقد حذروه فلم يسلموا إليه القلعة، ومنعوه عنها، فأمر أصحابه بنهب البلد، فنهبوا عدة مواضع منه، فتوسط القاضي الحال بأن سلم إليه من الخزانة خمسين ألف دينار ركنية، وأخذ له من التجار شيئاً آخر، وخطب أي دكز بغزنة لغياث الدين، وقطع خطبة الدز، ففرح الناس بذلك.
وكان مؤيد الملك ينوب عن الدز بالقلعة، ووصل الخبر إلى الدز بوصول أي دكز إلى غزنة، ووصول رسول أيبك إليه، ففت في عضده، وخطب لغياث الدين في تكياباذ، وأسقط اسمه من الخطبة، فخطب له، ورحل إلى غزنة؛ فلما قاربها رحل أي دكز عنها إلى بلد الغور، فأقام في تمران، وكتب إلى غياث الدين يخبره بحاله، وأنفذ إليه المال الذي أخذه من الخزانة ومن أموال الناس، فأرسل إليه خلعاً وأعتقه، وخاطبه بملك الأمراء، ورد عليه المال الذي كان أخذه من الخزانة، وقال له: أما مال الخزانة فقد أعدناه إليك لتخرجه، وأما أموال التجار وأهل البلد فقد أرسلته مع رسولي ليعاد إلى أربابه لئلا نفتتح دولتنا بالظلم، وقد عوضتك عنه ضعفه.
وأرسل أموال الناس إلى غزنة، إلى قاضي غزنة، وأمره أن يرد المال المنفذ على أربابه، فأنهى القاضي الحال إلى الدز، وأشار عليه بالخطبة لغياث الدين، وقال: أنا أسعى في الوصلة بينكما والصهر والصلح، فأمر بذلك، فبلغ الخبر إلى غياث الدين، فأرسل إلى القاضي ينهاه عن المجيء إليه، وقال: لا تسأل في عبد أبق قد بان فساده واتضح عناده؛ فأقام بغزنة هو والدز، وسير غياث الدين، وقد أقطعها لبعض الأمراء، فهجموا على صاحبها، فنهبوا ماله، وأخذوا أولاده، فنجا وحده إلى غياث الدين، فاقتضى الحال أن سار غياث الدين إلى بست وتلك الولاية، فاستردها وأحسن إلى أهلها، وأطلق لهم خراج سنة لما نالهم من الدز من الأذى.

.ذكر وفاة صاحب مازندران والخلف بين أولاده:

في هذه السنة توفي حسام الدين أردشير، صاحب مازندران، وخلف ثلاثة أولاد، فملك بعده ابنه الأكبر، وأخرج أخاه الأوسط من البلاد، فقصد جرجان، وبها الملك علي شاه بن خوارزم شاه تكش، أخو خوارزم شاه محمد، وهو ينوب عن أخيه فيها، فشكا إليه ما صنع به أخوه من إخراجه من البلاد، وطلب منه أن ينجده عليه، ويأخذ له البلاد ليكون في طاعته، فكتب علي شاه إلى أخيه خوارزم شاه في ذلك، فأمر بالمسير معه إلى مازندران، وأخذ البلاد له، وإقامة الخطبة لخوارزم شاه فيها.
فساروا عن جرجان، فاتفق أن حسام الدين، صاحب مازندران، مات في ذلك الوقت، وملك البلاد بعده أخوه الأصغر، واستولى على القلاع والأموال، فدخل علي شاه البلاد، ومعه صاحب مازندران، فنهبوها وخربوها، وامتنع منهم الأخ الصغير بالقلاع، وأقام بقلعة كور، وهي التي فيها الأموال والذخائر، وحصروه فيها بعد أن ملكوا أسامة البلاد مثل: سارية وآمل وغيرهما من البلاد والحصون، وخطب لخوارزم شاه فيها جميعها، سوى القلعة التي فيها أخوه الأصغر، وهو يراسله، ويستميله، ويستعطفه، وأخوه لا يرد جواباً، ولا ينزل عن صنه.

.ذكر ملك غياث الدين مدينة أنطاكية:

في هذه السنة، ثالث شعبان، ملك غياث الدين كيخسرو، صاحب قونية وبلد الروم، مدينة أنطاكية بالأمان، وهي للروم على ساحل البحر.
وسبب ذلك أنه كان حصرها قبل هذا التاريخ، وأطال المقام عليها، وهدم عدة أبراج من سورها، ولم يبق إلا فتحها عنوة، فأرسل من بها من الروم إلى الفرنج الذين بجزيرة قبرس، وهي قريبة منها، فاستنجدوهم، فوصل إليها جماعة منهم، فعند ذلك يئس غياث الدين منها، ورحل عنها، وترك طائفة من عسكره بالقرب منها، بالجبال التي بينها وبين بلاده، وأمرهم بقطع الميرة منها.
فاستمر الحال على ذلك مدة حتى ضاق بأهل البلد، واشتد الأمر عليهم، فطلبوا من الفرنج الخروج لدفع المسلمين عن مضايقتهم، فظن الفرنج أن الروم يريدون إخراجهم من المدينة بهذا السبب، فوقع الخلف بينهم، فاقتتلوا، فأرسل الروم إلى المسلمين، وطلبوهم ليسلموا إليهم البلد، فوصلوا إليهم، واجتمعوا على قتال الفرنج، فانهزم الفرنج ودخلوا الحصن فاعتصموا به، فأرسل المسلمون يطلبون غياث الدين، وهو بمدينة قونية، فسار إليهم مجداً في طائفة من عسكره، فوصلها ثاني شعبان، وتقرر الحال بينه وبين الروم، وتسلم المدينة ثالثة، وحصر الحصن الذي فيه الفرنج، وتسلمه وقتل كل من كان به من الفرنج.

.ذكر عزل ولد بكتمر صاحب خلاط وملك بلبان ومسير صاحب ماردين إلى خلاط وعوده:

وفي هذه السنة قبض عسكر خلاط على صاحبها ولد بكتمر، وملكها بلبان مملوك شاه أرمن بن سكمان، وكتب أهل خلاط إلى ناصر الدين أرتق ابن إيلغازي بن البي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق يستدعونه إليها.
وسبب ذلك أن ولد بكتمر كان صبياً جاهلاً، فقبض على الأمير شجاع الدين قتلغ؛ مملوك من مماليك شاه أرمن، وهو كان أتابكه، ومدبر بلاده، وكان حسن السيرة مع الجند والرعية، فلما قتله اختلفت الكلمة عليه من الجند والعامة، واشتغل هو باللهو واللعب وإدمان الشرب، فكاتب جماعة من عامة خلاط، وجماعة من جند ناصر الدين، صاحب ماردين يستدعونه إليهم؛ وإنما كاتبوه دون غيره من الملوك لأن أباه قطب الدين إيلغازي كان ابن أخت شاه أرمن بن سكمان، وكان شاه أرمن قد حلف له الناس في حياته لأنه لم يكن له ولد، فلما تجددت بعده هذه الحادثة تذاكروا تلك الأيمان، وقالوا: نستدعيه ونملكه، فإنه من أهل بيت شاه أرمن فكاتبوه وطلبوه إليهم.
ثم إن بعض مماليك شاه أرمن، اسمه بلبان، وكان قد جاهر ولد بكتمر بالعداوة والعصيان، سار من خلاط إلى ملازكرد وملكها، واجتمع الأجناد عليه، وكثر جمعه، وسار إلى خلاط فحصرها، واتفق وصول صاحب ماردين إليها، وهو يظن أن أحداً لا يمتنع عليه، خلاط قد اتهموني بالميل إليك، وهم ينفرون من العرب، والرأي أنك ترحل عائداً مرحلة واحدة وتقيم، فإذا تسلمت البلد سلمته إليك، لأنني لا يمكنني أن أملكه أنا.
ففعل صاحب ماردين ذلك، فلما أبعد عن خلاط أرسل إليه يقول له: تعود إلى بلدك، وإلا جئت إليك وأوقعت بك وبمن معك. وكان في قلة من الجيش، فعاد إلى ماردين.
وكان الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب حران وديار الجزيرة، قد أرسل إلى صاحب ماردين، لما سمع أنه يريد قصد خلاط، يقول له: إن سرت إلى خلاط قصدت بلدك؛ وإنما خاف أن يملك خلاط فيقوى عليهم، فلما سار إلى خلاط جمع الأشرف العساكر وسار إلى ولاية ماردين، فأخذ دخلها، وأقام بدنيسر يجبي الأموال إليه، فلما فرغ منه عاد إلى حران، فكان مثل صاحب ماردين كما قيل: خرجت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين.
وأما بلبان فإنه جمع العسكر وحشد، وحصر خلاط وضيق على أهلها، وبها ولد بكتمر، فجمع من عنده بالبلد من الأجناد والعامة، وخرج إليه، فالتقوا، فانهزم بلبان ومن معه من بين يديه، وعاد إلى الذي بيده من البلاد، وهو: ملازكرد وأرجيش وغيرهما من الحصون، وجمع العساكر، واستكثر منها، وعاود حصار خلاط وضيق على أهلها، فاضطرهم إلى خذلان ولد بكتمر لصغره، وجهله بالملك، واستغاله بلهوه ولعبه، ثم قبضوا عليه في القلعة، وأرسلوا إلى بلبان وحلفوه على ما أرادوا، سلموا إليه البلد وابن بكتمر، واستولى على جميع أعمال خلاط، وسجن ابن بكتمر في قلعة هناك، واستقر ملكه، فسبحان من إذا أراد أمراً هيأ أسبابه؛ بالأمس يقصدها شمس الدين محمد البهلوان وصلاح الدين يوسف بن أيوب، فلم يقدر أحدهما عليها، والآن يظهر هذا المملوك العاجز، القاصر عن الرجال والبلاد والأموال، فيملكها صفواً عفواً.
ثم إن نجم الدين أيوب بن العادل، صاحب ميافارقين، سار نحو ولاية خلاط؛ وكان قد استولى على عدة حصون من أعمالها منها: حصن موسى ومدينته، فلما قارب خلاط أظهر له بلبان العجز عن مقابلته، فطمع، وأوغل في القرب، فأخذ عليه بلبان الطريق وقاتله فهزمه، ولم يفلت من أصحابه إلا القليل وهم جرحى، وعاد إلى ميافارقين.

.ذكر ملك الكرج مدينة قرس وموت ملك الكرج:

في هذه السنة ملك الكرج حصن قرس، من أعمال خلاط، وكانوا قد حصروه مدة طويلة، وضيقوا على من فيه، وأخذوا دخل الولاية عدة سنين، وكل من يتولى خلاط لا ينجدهم، ولا يسعى في راحة تصل إليهم.
وكان الوالي بها يواصل رسله في طلب النجدة، وإزاحة من عليه من الكرج، فلا يجاب له دعاء، فلما طال الأمر عليه، ورأى أن لا ناصر له، صالح الكرج على تسليم القلعة على مال كثير وإقطاع يأخذه منهم، وصارت دار شرك بعد أن كانت دار توحيد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأل الله أن يسهل للإسلام وأهله نصراً من عنده، فإن ملومك زماننا قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم وظلمهم عن سد الثغور وحفظ البلاد.
ثم إن الله تعالى نظر إلى قلة ناصر الإسلام، فتولاه هو، فأمات ملكة الكرج، واختلفوا فيما بينهم وكفى الله شرهم إلى آخر السنة.

.ذكر الحرب بين عسكر الخليفة وصاحب لرستان:

في هذه السنة، في رمضان، سار عسكر الخليفة من خوزستان مع مملوكه سنجر، وهو كان المتولي لتلك الأعمال؛ وليها بعد موت طاشتكين أمير الحاج، لأنه زوج ابنة طاشتكين، إلى جبال لرستان، وصاحبها يعرف بأبي طاهر، وهي جبال منيعة بني فارس وأصبهان وخوزستان، فقاتلوا أهلها وعادوا منهزمين.
وسبب ذلك أن مملوكاً للخليفة الناصر لدين الله اسمه قشتمر من أكاب مماليكه كان قد فارق الخدمة لتقصير رآه من الوزير نصير الدين العلوي الرازي، واجتاز بخوزستان، وأخذ منها ما أمكنه ولحق بأبي طاهر صاحب لرستان، فأكرمه وعظمه وزوجه ابنته، ثم توفي أبو طاهر فقوي أمر قشتمر، وأطاعه أهل تلك الولاية.
فأمر سنجر بجمع العساكر وقصده وقتاله، ففعل سنجر ما أمر به، وجمع العساكر وسار إليه، فأرسل قشتمر يعتذر، ويسأل أن لا يقصد ولا يخرج عن العبودية، فلم يقبل عذره، فجمع أهل تلك الأعمال، ونزل إلى العسكر، فلقيهم، فهزمهم، وأرسل إلى صاحب فارس بن دكلا وشمس الدين إيدغمش، صاحب أصبهان وهمذان والري، يعرفهما الحال، ويقول: إنني لا قوة لي بعسكر الخليفة، وربما أضيف إليهم عساكر أخرى من بغداد وعادوا إلى حربي، وحينئذ لا أقدر بهم؛ وطلب منهما النجدة، وخوفهما من عسكر الخليفة إن ملك تلك الجبال، فأجاباه إلى ما طلب، فقوي جنانه، واستمر على حاله.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قتل صبي صبياً آخر ببغداد، وكانا يتعاشران، وعمر كل واحد منهما يقارب عشرين سنة، فقال أحدهما للآخر: الساعة أضربك بهذه السكين؛ يمازحه بذلك، وأهوى نحوه بها، فدخلت في جوفه فمات، فهرب القاتل ثم أخذ وأمر به ليقتل، فلما أرادوا قتله طلب دواة ورقعه بيضاء، وكتب فيها من قوله:
قدمت على الكريم بغير زاد ** من الأعمال بالقلب السليم

وسوء الظن أن تعتد زاداً ** إذا كان القدوم على كريم

وفيها حج برهان الدين صدر جهان محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن مارة البخاري رأس الحنفية ببخارى، وهو كان صاحبها على الحقيقة، يؤدي الخراج إلى الخطا، وينوب عنهم في البلد، فلما حج لم تحمد سيرته في الطريق، ولم يصنع معروفاً، وكان قد أكرم ببغداد عند قدومه من بخارى، فلما عاد لم يلتفت إليه لسوء سيرته مع الحاج، وسماه الحجاج صدر جهنم.
وفيها، في شوال، مات شيخنا أبو الحرم مكي بن ريان بن شبة النحوي المقري بالموصل، وكان عارفاً بالنحو واللغة والقراآت، لم يكن في زمانه مثله، وكان ضريراً، وكان يعرف سوى هذه العلوم من الفقه والحساب وغير ذلك معرفة حسنة؛ وكان من خيار عباد الله وصالحيهم، كثير التواضع، لا يزال الناس يشتغلون عليه من بكرة إلى الليل.
وفيها فارق أمير الحاج مظفر الدين سنقر مملوك الخليفة المعروف بوجه السبع الحاج بموضع يقال له المرجوم، ومضى في طائفة من أصحابه إلى الشام، وسار الحاج ومعهم الجند، فوصولا سالمين، ووصل هو إلى الملك العادل أبي بكر بن أيوب، فأقطعه إقطاعاً كثيراً بمصر، وأقام عنده إلى أن عاد إلى بغداد سنة ثمان وستمائة في جمادى الأولى؛ فإنه لما قبض الوزير أمن على نفسه، وأرسل يطلب العود، فأجيب إليه، فلما وصل أكرمه الخليفة وأقطعه الكوفة.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي أبو الفضل عبد المنعم بن عبد العزيز الإسكندراني، المعروف بابن النطروني، في مارستان بغداد، وكان قد مضى إلى المايورقي في رسالة بإفريقية، فحصل له منه عشرة آلاف دينار مغربية، فرقها جميعها في بلده على معارفه وأصدقائه، وكان فاضلاً خيراً، نعم الرجل، رحمه الله وله شعر حسن، وكان قيماً بعلم الأدب، وأقام بالموصل مدة، واشتغل على الشيخ أبي الحرم، واجتمعت به كثيراً عنده. ثم دخلت:

.سنة أربع وستمائة:

.ذكر ملك خوارزم شاه ما وراء النهر وما كان بخراسان من الفتن وإصلاحها:

في هذه السنة عبر علاء الدين محمد بن خوارزم شاه نهر جيحون لقتال الخطا.
وسبب ذلك أن الخطا كانوا قد طالت أيامهم ببلاد تركستان، وما وراء النهر، وثقلت وطأتهم على أهلها، ولهم في كل مدينة نائب يجبي إليهم الأموال، وهم يسكنون الخركاهات على عادتهم قبل أن يملكوا، وكان مقامهم بنواحي أوزكند، وبلاساغون، وكاشغر، وتلك النواحي، فاتفق أن سلطان سمرقند وبخارى، ويلقب خان خانان، يعني سلطان السلاطين، وهو من أولاد الخانية، عريق النسب في الإسلام والملك، أنف وضجر من تحكم الكفار على المسلمين، فارسل إلى خوارزم شاه يقول له: إن الله، عز وجل، قد أوجب عليك بما أعطاك من سعة الملك وكثرة الجنود أن تستنقذ المسلمين وبلادهم من أيدي الكفار، وتخلصهم مما يجري عليهم من التحكم في الأموال والأبشار، ونحن نتفق معك على محاربة الخطا، ونحمل إليك ما نحمله إليهم، ونذكر اسمك في الخطبة وعلى السكة؛ فأجابه إلى ذلك، وقال: أخاف أنكم لا تفون لي.
فسير إليه صاحب سمرقند وجوه أهل بخار وسمرقند، بعد أن حلفوا صاحبهم على الوفاء بما تضمنه، وضمنوا عنه الصدق والثبات على ما بذل، وجعلوا عنده رهائن، فشرع في إصلاح أمر خراسان، وتقرير قواعدها، فولى أخاه علي شاه طبرستان مضافة إلى جرجان، وأمره بالحفظ والاحتياط، وولى الأمير كزلك خان، وهو من أقارب أمه وأعبان دولته، بنيسابور، وجعل معه عسكراً، وولى الأمير جلدك مدينة الخام، وولى الأمير أمين الدين أبا بكر مدينة زوزن.
وكان أمين الدين هذا حمالاً، ثم صار أكبر الأمراء، وهو الذي ملك كرمان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وأقر الأمير الحسين على هراة، وجعل معه فيها ألف فارس من الخوارزمية، وصالح غياث الدين محموداً على ما بيده من بلاد الغور، وكرمسير، واستناب في مرو وسرخس وغيرهما من خراسان نواباً، وأمرهم بحسن السياسة، والحفظ، والاحتياط، وجمع عساكره جميعها، وسار إلى خوارزم، وتجهز منها، وعبر جيحون، واجتمع بسلطان سمرقند، وسمع الخطا، فحشدوا، وجمعوا، وجاؤوا إليه فجرى بينهم وقعات كثيرة ومغاورات، فتارة له وتارة عليه.